بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم
الإفادة الأحمدية لمريد السعادة الأبدية – مقتطفات 3
الإفادة الأحمدية – في أهل البيت رضي الله عنهم
قال سيدنا الشيخ رضي الله عنه في الإفادة الأحمدية ما معناه
عصاة أهل البيت يسلك بهم مسلك أهل بدر، يقال لهم اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، والموفقون منهم لا يلحقهم أحد.
يقول العلامة العارف بالله سيدي أحمد سكيرج رضي الله عنه في كتاب طرق المنفعة بالأجوبة عن الأسئلة
الأربعة
فلما سمع ذلك أحد علماء الظاهر. قال : وكيف نوفق بين هذا وقول رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ما معناه : الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيا، والنار لمن عصاني ولو كان شريفا قرشيا، وقوله تعالى : “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، وقوله تعالى : لا أنساب بينهم” الآية.
الجواب : اعلم أن ما نقله في الإفادة الأحمدية عن سيدنا الشيخ التجاني قدس سره من هذه المقالة دليل على استغراق الشيخ رضي الله عنه في محبة ساداتنا آل البيت، ولسلطان المحبة استواء على عرش القلوب، بالإغضاء عن كل ما يصدر عن المحبوب من العيوب، بمقتضى قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : حبك الشيء يعمي ويصم، بمعنى أن المحب للشيء لا يرى في محبوبه عيبا، ولا يسمع فيه لوما، وإنما يرى ما يسره في سائر أحواله، تحققا بأن كل ما يفعله الحبيب حبيب، ومن هذا قول القائل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد = جاءت محاسنه بألف شفيع
وقلت في إصلاح معناه
وإذا الحبيب أتى بألف خطيئة = جاءت محاسنه بخير شفيع
لأن الحبيب في عين الرضى دائما محبه
وعين الرضى عن كل عيب كليلة = ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقد كان الشيخ رضي الله عنه في حب هذا الجانب، بما علت به مرتبته لأعلى المراتب، ورأى الناس من إخلاصه في موالاة آل البيت وصدق محبتهم قيد حياته ما بهر المتمسكين بحبل حبهم، فتنافسوا معه في المحبة فلم يدركوا شأوه. وقد كان يوصي أصحابه وأحبابه على تعظيم آل البيت والصدق في محبتهم في السر والعلانية بإخلاص نية، ويؤكد على الشرفاء في تعظيم بعضهم بعضا ويقول ما معناه : لا ينبغي للشريف أن يتهاون بحق الشريف، فإن العوام غير مخاطبين وحدهم بولائهم، ومما أنشده الإمام ابن عربي في فتوحاته
فلا تعدل بأهل البيت خلقا = فآل البيت هم أهل السيادة
فبغضهم من الإنسان خسر = حقيقي وحبهم عبادة
ولا شك أن البضعة المحمدية وهم سادتنا آل البيت، ولو صدرت منهم الذنوب، وتلطخوا بعيوب، ليسوا بمعصومين، فيتنزلون منزل الذهب الإبريز، لا يزال على نفاسته، ورفع قيمته، ولو طرح في المزابل، لأنه في حد ذاته كامل فاضل، وكان رضي الله عنه ينوه بشأنهم في مجالسه بما صار معروفا به بين الناس من شدة محبتهم والتحبب لهم بأنه المحب المخلص مع أحبابه في هذا الجانب، وللمحبة أحكام لا يقاس عليها غيرها عند من عرف ما تقضي به على من شرب خمرتها، ولهذا يتعين على المشفق على نفسه أن يتثبت في هذا المقام، وأن لا يحجبه عن صدق محبة آل البيت ما يقع منهم من ذنوب وآثام، وقد حفظت هذه الأبيات في المنام بعد قضية وقعت لنا مع بعض الأعلام وهي
خذ سنة الله بين خلقه أبدا = ولتجعلنها لديك خير قسطاس
ما عظم المرء آل البيت دون مرا = إلا وعظم عند الله والناس
فالحظ بعين كمال الفضل قدرهم = واخضع لهم دائما بالقلب والراس
وليس في قوله رضي الله عنه : عصاة أهل البيت يسلك بهم مسلك أهل بدر إلخ … ما يدل على إباحة ارتكاب المعاصي في حقهم، وإنما يدل ذلك على التنويه بالبضعة المحمدية وأنهم ملحوظون بعين الرضى عند الحق على أي حالة كانوا عليها، لكون الشريف الحقيقي لا تسول له نفسه انتهاك حرمة مولاه، وإن صدر منه شيء مما نهى عنه فإنه يبادر بالتوبة، ولا يموت حتى يتوب التوبة النصوح، فتتحقق المغفرة في حقه لكونه في عين الرضى. وقد أجاد القائل في مخاطبة محبوبه، مشيرا للحديث الوارد في السادة أهل بدر رضي الله عنهم :
يا بدر أهلك جاروا = وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي = وحسنوا لك هجري
فليفعلوا ما يشاءوا = فإنهم أهل بدر
وقال سلطان العاشقي
فليصنع القوم ما شاءوا لأنفسهم = هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
وليس المقصود من هذا كله ظاهر العبارة، كما نص عليه شراح الحديث المشار له، فقد حملوه على أن الله تعالى يوفقهم للتوبة قبل الموت طبق ما قلناه، وقيل أنه تعالى شرفهم بعدم الموآخذة بما يصدر منهم، لأن غاية ما يصدر منهم لا يبلغ بهم لمرتبة الكفر، لأنه لا يمكن عند محبهم أن يموت واحد منهم على الكفر، لأن البضعة المحمدية قطعة نور لا تنطفئ بظلمة الكفر، فالإيمان فيها غريزي والشرف ذاتي، بخلاف ذلك في حق غيرهم، وفي هذا المعنى قلت
شرف الآل لهم ذاتي يرى = ولدينا شرف الغير عرض
فلتكن خادمهم متصفا = بكمال الحب من غير غرض
ولبعض الأعلام وقد أجاد غاية
آل النبي لهم في نفس نسبتهم = قدر عظيم له في المجد غايات
والأولياء وإن علت مراتبهم = في رتبة العبد والسادات سادات
وفي معناها قلت
آل النبي لهم في الكون منقبة = خصوا بها في الورى بفضل ربهم
والأولياء على اختلاف مشربهم = لم يحرزوا مطلبا إلا بحبهم
قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي قدس سره : الذي أقول به أن ذنوب أهل البيت إنما هي ذنوب في الصورة لا في الحقيقة، لأن الله تعالى غفر لهم ذنوبهم بسابق العناية بقوله تعالى : “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، ولا رجس أرجس من الذنوب الخ … وإذا نظرت إلى ما قاله سيدنا رضي الله عنه وجدته جاريا على منهج الكمل الصادقين في محبة ساداتنا آل البيت، وليس في ذلك ما يجرئ الشريف على المعصية، لأن ذلك في حق الشريف الحقيقي، وهو الذي ثبت نسبه بالحضرة المحمدية، بحيث لو كشف الحجاب عنه لوجد من بيت النبوة حقيقة ليس من الأدعياء في شيء، ولهذا يتعين في حق كل من انتسب لهذا البيت وإن ثبت شرعا نسبه الشريف أن لا يغتر بالنسبة الشريفة، وليعمل على أنه مجرد مسلم، ولا يعتمد على شرفه إلا إذا تحقق بشرفه بإخبار من لا ينطق عن الهوى. وقد طوى بساط الخبر الذي لا يتطرق إليه احتمال بانتقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، ولم تبق إلا البشارات التي منها الرؤيا الصالحة، وكشف الحجاب بمشاهدته (- صلى الله عليه وسلم -) لمن يراه يقظة، ولا يقع ذلك غالبا إلا لمن حفظ دينه فكان من الأولياء، والأولياء سريعوا التوبة بالرجوع إلى مولاهم كلما صدر منهم ذنب، فيتنزلون منزلة أهل بدر إذا كانوا من أهل البيت، وهذا المقام يحتاج إلى زيادة تلطف في المقال، مع كمال احترام لساداتنا أهل البيت الكرام، خشية تغير خاطرهم بسماع مثل هذا القول الذي يقضي بالطعن في الأنساب الطاهرة، الباطنة والظاهرة، وإن كان الكلام إنما هو في المدعين للنسب الشريف، وهم كثير، وإليهم يتوجه القول ليتداركوا أمر نفوسهم قبل فضيحتهم بعدم صحة نسبهم يوم الهول، وكل من ليس عنده القطع بما عند الله في نسبه فلا ينبغي أن يعتمد عليه ويفعل ما بدا له، وإن كان اللائق بالمكلفين أن يحترموا كل من ادعاه محقا كان أو مبطلا خشية الوقوع في المحظور في إخراجه من نسبه. وقد كان العارف بالله سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول : لا ينبغي لمن يؤمن بالله ويحب رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يتوقف عن تعظيم الشريف والإحسان إليه حتى يعرف صحة نسبه، بل يكفيه تظاهر الشريف بالشرف، وذلك أوجه للمؤمن عند رسول (- صلى الله عليه وسلم -) من حيث إنا عظمناه ووقرناه من غير توقف على صحة النسب. وليحذر المكلف كيف ما كان شريفا أو غير شريف من إطلاق لسانه في كل من ادعى هذا النسب أو النسبة لأهل الله. ولو تحقق كذبه في ظاهر الحال، وإنما يطعن فيه من حيثية الطعن الشرعي، فيقول مثلا نسب هذا السيد لم يثبت إذا ثبت لدا هذا الطاعن عدم صحة نسب المطعون فيه بمواجب شرعية، وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول : من ادعى الشرف كاذبا يضرب ضربا وجيعا ثم يشهر ويحبس طويلا حتى تظهر لنا توبته، لأن ذلك استخفاف منه بحقه (- صلى الله عليه وسلم -)، ومع ذلك كان يعظم من طعن في نسبه ويقول : لعله شريف في نفس الأمر. وقد تنافس الناس في محبة هذا الجانب، ولكل واحد منهم على قدر ما هو من محبتهم شارب، ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي يقول
لو شق قلبي لبدا وسطه = سطران قد خطا بلا كاتب
الشرع والتوحيد في جانب = وحب آل البيت في جانب
وصرح رضي الله عنه بمذهبه في محبتهم الصادقة فقال
يا راكبا قف بالمحصب من منى = واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد = فليشهد الثقلان أني رافضي
وإذا تقرر هذا لديك عرفت المقصود من كلام سيدنا رضي الله عنه وأنه جرى في هذه المقالة مجرى العاشقين لهذا الجناب الخليق بكل احترام، فنبه بذلك أحبابه ليقدروا قدر آل البيت على أي حال كانوا عليها، وأن العيوب البشرية لا تزري بمقامهم عند خالقهم، وإن كانت الأحكام الشرعية تجري عليهم فيما يصدر منهم لكونهم غير معصومين، ولم يرفع عنهم التكليف الشرعي بين الخلق في هذه الحياة الدنيا ودار القرار، ولكن الفضل بيد الله الذي أراد تطهيرهم من الرجس، فيحمل ما ورد في حديث : الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيا، والنار لمن عصاني ولو كان شريفا قرشيا على فرض صحته محمل التخويف من الوقوع في العصيان، مع كون ذلك من الوعيد الذي إخلافه في جانب الكريم مما يمتدح به كما قال العربي
وإني إذا أوعدته أو وعدته = لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
على أن الجنة أيضا في حق من أطاع الحق ليس من الواجب على الله، بل له سبحانه أن يدخل الجنة من عصاه والنار من أطاعه، لكونه هو الفاعل المختار، فلا يجب عليه شيء طبق العقيدة السالمة من زيغ الأهواء المضلة، وبهذا ينتفي الإشكال بين قول الشيخ والحديث المذكور، والتوفيق بين ذلك وبين قوله تعالى : “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” واضح من قوله رضي الله عنه : والموفقون منهم لا يلحقهم أحد. فآل البيت مراتبهم متفاوتة بحسب أعمالهم في الإكرام، وإن كان النسب لا تفاوت فيه، ولا يقضي كونهم مع جدهم في دار النعيم أنهم أفضل من الأنبياء، ولو بلغ الشريف ما بلغ لم يبلغ درجة الكرامة التي يحرز عليها الأنبياء عليهم السلام، لأنهم أتقى الخلق وأكرمهم على الحق، وإن كان الكلام إنما هو في كون عصاة أهل البيت يسلك بهم مسلك أهل بدر في المغفرة لذنوبهم، لا يقال أن ما قاله الشيخ رضي الله عنه لم يرد عن الشارع حتى يقطع به، لأنا نقول إنه لم يأمر رضي الله عنه الناس بالقطع بقوله، وإنما ذكره لأهل الإعتقاد في جنابه ليقوموا بما اقتضته المحبة الصادقة في هذا النسب الشريف، ولا عليه فيمن لم يقطع بمضمن مقاله، وقد تقدم لنا التنبيه على هذا المعنى فيما بيناه أتم بيان، وأما التوفيق بين مقاله وبين قوله تعالى “فلا أنساب بينهم يومئذ” إلخ … فقد نص المفسرون على أن ذلك عند النفخة الأولى في قول ابن عباس رضي الله عنهما، أو النفخة الثانية في قول ابن مسعود رضي الله عنه، ومعناه : لا أنساب بينهم يتفاخرون بها، وإلا فالأنساب ثابتة بينهم لا يصح نفيها، وقد ذكر العلامة السيوطي رحمه الله في كتابه إحياء الميت بفضائل أهل البيت أحاديث صريحة بأن قوله تعالى لا أنساب بينهم في غير آل البيت، قال أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر أنه سمع عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما يقول للناس حين تزوج بنت علي رضي الله عنه : ألا تهنئوني، سمعت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول : ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلا سببي ونسبي. وقال فيه أيضا أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلى سببي ونسبي، وقال فيه أيضا أخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول (- صلى الله عليه وسلم -) : كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري، وبهذا انتفى الإشكال، وتم التوفيق في أحسن حال، والله الموفق.